لا يمر شهر دون أن تطفو على الساحة فضيحة عن
فساد أو اختلاس لأموال عمومية أو عمولات ورشاوى نظير الحصول على صفقات
بالملايير تحت الطاولة، وتم التحول من شعار ''دعه يعمل دعه يمر '' إلى
''دعه ينهب دعه يمر'' . والأخطر ليس في حجم الضرر الناجم عنها ولا في نوعية
أسماء المتورطين فيها، بل في كون هذه الفضائح فجرت من قبل هيئات في الخارج
وليس في داخل البلاد، مما يعني أن ''التستر'' عليها، هو سلوك يكاد يكون
متعمد من طرف المكلفين قانونا بتسيير الشأن العام. البعض قال أن غياب ثقافة
الحساب وراء ''تغول'' الفساد والبعض الآخر يرى أن عدم استقلالية القضاء
وهيمنة السلطة التنفيذية على كل شىء، قد حوّل بعض المسؤولين من حاميها إلى
حراميها.
منذ حكاية 26 مليار دولار والوضعية مستمرةالفساد مؤسسة قائمة بذاتها ولا إرادة لوقفها دعا
رئيس الجمهورية في بداية عهدته الثالثة، الصحافة إلى محاربة الفساد
والرشوة والمحسوبية، وكان ذلك اعترافا منه بأن هذه الظواهر أصبحت مفضوحة
ولا يمكن غض البصر عنها. لكن نفس الرئيس أسال العرق البارد ذات يوم في قصر
الأمم، لوزير الدولة آنذاك ورئيس حركة ''حمس'' أبو جرة سلطاني لمجرد تفوهه
بكلام عن ملفات فساد قال أنها بحوزته!. رغم مسارعة النائب العام لمجلس
قضاء العاصمة، عن إلحاق رشاوى ''سايبام'' الإيطالية لمسؤولين في قطاع
النفط، إلى التحقيق الجاري حول فضيحة سوناطراك، غير أن ذلك لا يعطي تفاؤلا
كبيرا في أن محاربة الفساد ستمتد إلى غاية تنفيذ ''من أين لك هذا''؟ ضد
المتورطين فيها وبخاصة من مسؤولي الدولة، لأن كل مؤشراتها تقول أن الإرادة
السياسية في محاربة الفساد ليست موجودة، لا كقناعة ولا كنظام حكم في أي
مستوى من مستويات الدولة. وما يغذي ذلك أنه يتم التعامل مع قضايا الفساد
والرشوة التي ضبط متلبسا بها أكثر من موظف حكومي سامي وفي أكثر من وزارة،
وكأنه اكتشاف يحدث لأول مرة، بالرغم من أن أغبى مواطن يعلم علم اليقين أن
حجم الفساد تجاوز كل الحدود وينخر مؤسسات الدولة. ولم تعد منظمة ''شفافية
دولية'' بحاجة إلى إعادة تنقيح تقاريرها السابقة بخصوص الفساد في الجزائر
كون الوضعية لم تتغير أبدا، بل ازداد ما يسمى بـ ''الثراء الفاحش'' بشكل
مخيف وفي وقت قياسي. وتشير العديد من المعطيات منذ حادثة الـ 26 مليار التي
تحدّث عنها عبد الحميد الإبراهيمي، إلى فضائح ''سوناطراك'' و''سايبام''
وغيرها، أن أهم المتورطين أو المتهمين في مثل هذه القضايا موجودين في
الخارج ولم تصل إليهم يد القصاص العادل. لكن حتى وإن كانت الحسابات
السياسية والزبائنية هي من تتحكم بالدرجة الأولى في عمليات محاولة محاربة
الفساد والتصدي لسياسيات ''دعه ينهب دعه يمر''، غير أن تداخل مثل هذه
القضايا وتصفية الحسابات بين الزمر النافذة في الحكم وتضارب مصالحها،
بمقدوره كشف جزء من المستور والمسكوت عنه، لأنه من دون أن يختلف السراق،
كما يقال، لن يظهر أبدا المال المسروق. ويكون غياب هذا الخلاف وراء كون
أغلب حالات الفساد التي تم تسويقها من قبل الجهات الحكومية على أنها
إنجازات تحسب لها في إطار ''حملات الأيادي النظيفة''، تم التبليغ عنها من
قبل مؤسسات أجنبية أو جهات حكومية في الخارج متضررة منها وليس من طرف هيئات
رقابية في الداخل. كما كان الشأن في قضية صيد التونة أو الطريق السيار أو
سوناطراك أو سايبام الايطالية، وهو ما يعني أن تعامل مؤسسات الدولة مع
الفساد لا يخرج عن نطاق ''الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها''. يحدث هذا رغم
أن هناك أكثر من هيئة رسمية مكلفة بمحاربة الفساد وتملك صلاحيات قانونية
للقيام بهذه المهمة، على غرار البرلمان بلجان تحقيقه ومجلس المحاسبة بقضاته
وهيئة محاربة الفساد. فلماذا لا يدفع بهذه الهيئات التي ''تعلف '' من
ميزانية الدولة إلى الحلبة لمحاربة المرتشين والمفسدين في داخل الدولة
وخارجها؟
الجزائر: ح. سليمانآليات صادرة عن جهات هي أصلا محل شبهةالنيابة تمارس السياسة بدل القانون في فضائح الفساد استحدثت
السلطات العمومية، في فترة حكم الرئيس الحالي، آليات وقوانين وأدخلت
تعديلات على نصوص وجنّدت أعوانها في القضاء وأجهزة الأمن، وكثّفت من
اللقاءات والندوات رغم أنها تحارب الفساد. ولكن الإجراءات المتخذة في هذا
الجانب، لم تلق أية مصداقية لأن الجهة التي صدرت عنها هي أصلا محل شبهة
وفساد.
بين 2006 و2010، صدر قانون الوقاية من الفساد ومكافحته ولجنة
وطنية لمحاربته، وديوان مركزي لقمع المفسدين. وفي نفس الفترة، تعززت
صلاحيات مجلس المحاسبة والمفتشية العامة للمالية واستحدث ''قطب'' في القضاء
يتكفل حصريا بملفات الفساد، وأعطي للقضاة ضوء أخضر لإنزال عقوبات شديدة ضد
المتورطين فيه. لكن لم نسمع طول هذه المدة عن نتائج عمل هذه الجهات، وما
إذا كانت استعملت صلاحياتها كاملة في التحري داخل بؤر الفساد الحقيقية.
وتداولت الصحافة في السنين الأخيرة، عشرات القضايا تعامل معها القضاء بحزم
بعدما تحركت النيابة ضد الضالعين فيها. فصدرت عقوبات صارمة ضد والي الطارف
سابقا جيلالي عرعار بسبب تبديد 200 مليون سنتيم! وضد عاشور عبد الرحمن ونال
مسؤولو ميناء الجزائر جزاء صارما بسبب ''تجاوز القانون''، في منح التراخيص
لخواص لاستغلال نشاط رفع البضائع. وخلال كل هذه الفترة، توبع الكثير من
أعوان الجمارك بتهمة الرشوة. وقبل ذلك، سقطت عقوبات ضد المتهمين في قضية
''الخليفة'' أقساها كانت بحق المكلف بالخزينة في إحدى وكالات بنك الخليفة،
وبعض المتعاملين مع المجموعة التي كان يديرها عبد المؤمن خليفة المسجون
حاليا في بريطانيا. وفي مقابل الحزم الذي أبدته النيابة في هذه القضايا،
ظهرت جامدة أمام الملفات التي تتضمن أسماء أشخاص محسوبين على الجهات
النافذة في الدولة، وخاصة الرئاسة. فهي لم تمارس واجبها في الإخطار الذاتي،
لفتح تحقيقات فيما كتبته الصحافة منذ مدة عن تورط الوزير شكيب خليل في
الفساد بسوناطراك، لأن النيابة لا تجرؤ على مجرَد التفكير في متابعة شخص
محسوب على رئيس الجمهورية، أو اتخاذ أي إجراء للتحري في شبهات الفساد التي
تحوم حول مالكي المجموعات الاقتصادية الذين تربطهم صلات وثيقة بشقيق الرئيس
ومستشاره، وهم من موّلوا حملات بوتفليقة الانتخابية الثلاث. ولم نسمع عن
النيابة أنها فتحت تحقيقا في تورط ابن وزير الخارجية محمد بجاوي، في ملف
''إيني- سوناطراك''، لأن الأمر يتعلق برجل قانون خاط الدساتير على مقاس كل
الرؤساء المتعاقبين، بمن فيهم الرئيس الحالي، وبما يضمن ديمومة النظام منذ
.1962 كما لم تتحرك النيابة لتأكيد أو إبعاد الشبهة عن السكرتير الخاص
لرئيس الجمهورية ومسؤول التشريفات بالرئاسة، في قضية الرشوة التي تتداول
بعض المواقع الإلكترونية، خبرا مفاده أنهما، يكونان طلباها من أمير سعودي
مقابل تنظيم لقاء له مع الرئيس. النيابة تخلت عن واجبها في القضايا
المذكورة لأنها تمارس السياسة بدل القانون، ولأنها تتعامل بمقاييس مزدوجة
مع الفضائح.
الجزائر: حميد يسحواررئيس الجمعية الجزائرية لمكافحة الفساد جيلالي حجاج لـ ''الخبر''السلطات تحارب المنددين بالفساد أكثر من الفساد نفسه هل يمكن اعتبار فضيحة ''إيني'' مؤشرا لتنامي الفساد في الجزائر، ولماذا؟ طبعا،
أود الإشارة إلى أن فضيحة الفساد الأخيرة مع ''إيني'' الإيطالية، شوّهت
صورة الجزائر، ومعلوم أن دول أجنبية فتحت تحقيقات حول تورط شركات متعددة
الجنسيات في فضائح بالجزائر، غير أن العدالة الجزائرية لم تحرك ساكنا، على
غرار قضية ''سيمانس وإيركسون'' وبعدها قضية ''اس أن سي لافلان''، ونحن
قدمنا ملفات عديدة لوسائل الإعلام لكن ''الخبر'' وحدها من أثارتها، واليوم
وبعد الإحساس بهول الرشوة في قضية ''إيني''، دفعت إلى فتح التحقيق من قبل
مجلس قضاء الجزائر..هناك تساؤلات من قبل المختصين مفادها: كيف لدولة غنية
بمواردها البشرية والطبيعية وتاريخها، قرابة نصف سكانها يعيشون الفقر منذ
50 سنة من الاستقلال، بينما ظهر أغنياء جدد من محيط السلطة. ولفهم كيف
توسّع الفساد على نطاق واسع يجب التطرق لقطاع المحروقات، هناك ثقافة ريعية
حقيقية أتاحت جمع الأموال بصفة غير شرعية وسهلة.
وما محل ميكانيزمات محاربة الفساد التي وضعتها الدولة إذا كنت الظاهرة في استفحال مستمر؟ الفساد
في الجزائر ليس فقط مسألة اقتصادية ولكنها سياسية في عمقها. ونعلم أن
شفافية دولية أعدّت تقريرا منذ 2010، ونبّهت إلى أن الفساد استفحل بكثرة
رغم وضع الجزائر ميكانيزمات مكافحته، وهي ميكانيزمات ظهر أنها هشّة ودون
فعالية وغير مطبّقة، وما اتضح لدينا أن السلطة لا تكافح الفساد بقدر ما
تحارب المنظمات والمناضلين المنددين بالفساد، كما أن الأجهزة ''التقليدية''
التي وضعت في هذا الشأن، ظهرت صورية، أتساءل أين هو مجلس المحاسبة؟ أين هي
المفتشية العامة للمالية؟، ومراكزها الجهوية، والمفتشيات الوزارية وفرق
التحقيق الاقتصادية والمالية للأمن الوطني والدرك ومفتشيات التجارة وقمع
الغش ومفتشيات الضرائب وغيرها. والدليل على هشاشة مكافحة الفساد، هو أن
''الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد'' التي استحدثت بموجب قانون 2006، لم تنصب
إلا في 2010، وأكثر من ذلك، هي غائبة تماما، كما أن ''المرصد الوطني
لمحاربة الفساد'' تأخر تنصيبه بثلاث سنوات، وبعض نصوصه التطبيقية لم تنشر
بعد، كنظامه الداخلي، وهو ما يدل على غياب الإرادة الفعلية للسلطات لمكافحة
الآفة.
وما هو الحل في نظركم ؟ محاربة الفساد
تقتضي حلولا سياسية، إعلامية، والشفافية والمراقبة والإصلاح ومشاركة
المواطنين وتكريس المواطنة، وإشاعة ثقافة الكل يتحمل مسؤوليته، تكريس
الحريات وانفتاح السلطات على المجتمع، وضع حد للاحتكار السياسي، ثم تهديم
شبكات الفساد، لكن هذه الأمور تقتضي وعي السلطات بأنه يتوجب عليها أن لا
ترفض التغيير الديمقراطي.
حاوره: محمد شراق رئيس محكمة سيدي امحمد سابقا محمد راس العين لـ''الخبر''''محاربة الفساد تمر حتما عبر محاسبة المسؤول الفاشل''استحدثت السلطات آليات كثيرة لمحاربة الفساد منذ 2006، وكلما ضاعفت من الإجراءات في هذا المجال زاد الفساد، أليس ذلك مفارقة؟ الفساد
مرتبط ارتباطا وثيقا بنظام الحكم وبإدارة الشأن العام. بمعنى إذا أردنا
قياس حجم الفساد في بلد، ينبغي أن نتوقف عند الطريقة التي تدار بها الشؤون
الاجتماعية والاقتصادية وأداء القضاء. فإذا كانت كلها سيئة نصبح بالتأكيد
أمام فساد بجميع صوره داخل المؤسسات، والجزائر توجد في هذه الوضعية اليوم،
وزادها سوء غياب المساءلة. وللقضاء على آفة الفساد، ينبغي العودة إلى
الشرعية ومحاسبة المسؤول السياسي عن طريق الشعب. بعبارة أوضح، يجب أن يخضع
المسؤول الفاشل في الوفاء بمتطلبات العهدة التي انتخب من أجلها، للمساءلة
الشعبية بمعاقبته انتخابيا. فمصدر الفساد برأيي سياسي، وعندما تصبح إرادة
الشعب هي مصدر السلطات في الدولة، يمكن التقليل من حجم الفساد.
السلطات تبدي إرادة سياسية في محاربة الفساد، والقوانين التي صدرت عنها لا ترحم الضالعين في الفساد فلماذا تتهم بالتقصير؟ المفارقة
موجودة في القوانين، فالأصل أن الحكم يمارس سلطته عن طريق القوانين التي
نجدها اليوم مركزة بين يدي السلطة التنفيذية، خاصة بعد التعديل الدستوري
2008إنني ألاحظ بمرارة أن الفصل بين السلطات غائب، والسلطة التنفيذية تهيمن
على التشريعية بإصدار قوانين عن طريق المراسيم الرئاسية وتهيمن عليها أيضا
بواسطة الثلث الرئاسي بمجلس الأمة. إن التوازن بين السلطات ضروري لمنع
هيمنة جهة معينة، فإذا انحرفت مؤسسة تقابلها أخرى تصحح انحرافها. وبالنسبة
للقضاء، يقال أنه سلطة مستقلة في الدستور. أما في الواقع فمناصب التأطير
فيه بيد رئيس الجمهورية ولا أثر للمجلس الأعلى للقضاء في هذا الجانب. ما
أريد قوله، أن غياب التوازن بين السلطات يحول دون نجاح أية آلية هادفة إلى
القضاء على الفساد.
كيف تفسَر أن النيابة تتشدد ضد سارق هاتف نقال وتغض الطرف عن الحيتان الكبيرة ؟ النيابة
تتبع لسلطة تنفيذية تتعامل مع ملفات الفساد حسب الظروف ونزوات الأشخاص،
فمن الطبيعي أن تضيع المحاكمة العادلة. لذلك فإنشاء المراصد واللجان بزعم
محاربة الرشوة والفساد، لن يوصلنا إلى شيء. وبالمحصلة لن ننجح في محاربة
الفساد بدون تكريس استقلال القضاء، وبدون تفعيل دور مجلس المحاسبة ودور
البرلمان .
الجزائر: حاوره حميد يس