إصلاحات في حاجة إلى إصلاحات
بعد عشر سنوات من التغيير والإصلاح في قطاعات حساسة وإستراتيجية يقوم عليها استقرار البلاد ومستقبلها، مثل العدالة والتربية وهياكل الدولة، تحقق ما تحقق، وننتظر الوصل إلى باقي الأهداف، وعلى رأسها التجاوب مع انشغالات المواطن، دون إغفال البعد الدولي، وفي غمرة هذا الترقب المليء بالأمل، نستيقظ وكأن شيئا لم يكن، ويسوق إلينا الأمر على أن ما حدث كان فشلا أو عبثا بالقدرات والجهد والتطلعات أيضا، وأنه لم يكن مرتبطا بالواقع المعيش، مكتفيا بالتركيز على الجانب النظري والشكلي دون أن تهتم بالإطار البشري والأداء، حيث عادت الأمور إلى نقطة الصفر، وبشهادة من أهلها وصانعيها، هكذا فجأة، بل أصبح الإصلاح في حاجة إلى إصلاح آخر أعمق.
استقلالية القضاء ودولة الحق والقانون.. رهانات الإصلاح
في قطاع العدالة، باعتباره قاطرة الاستقرار، استقرار الحكم والناس، ظل الاجتهاد متواصلا للوصول الى "زبدة" الأعمال الموجودة في مختلف المنظومات القانونية والتشريعية، شملت تلك القريبة من منظومتنا، وحتى منظومة الولايات المتحدة الأمريكية، حيث انتهت الملاحظات والاستنتاجات الى تشكيل رؤية واضحة عن ترقية حقوق الدفاع واستقلالية القضاء، بالإضافة الى تدعيم أعوان القضاء، المحضرين القضائيين، الموثقين، محافظي البيع، فضلا عن المحامين، حيث مازال النقاش جاريا حول قانون مهنتهم، كما جرى تحسن بعض الخدمات، وخاصة في مجال الوثائق والتواصل مع المواطن، إلى جانب استحداث طرق بديلة لحل النزاعات وهي الصلح والوساطة والحبس للمنفعة العامة مع تحديث إجراءات التحكيم آليات جديدة.
ووسط هذا العمل، تبين لنا بعد عشر سنوات بأن الأمور ليست بخير، وأن الإصلاحات الهادفة إلى إضفاء مطلبي النوعية والاستقلالية ظلت بعيدا عن يوميات أطراف عملية التقاضي، كل يشكو انطلاقا من موقعه، فالمواطن يشكو ضياع حقوقه وطول انتظار التنفيذ، والمحامي مازال يناضل ويقاطع الأشغال من أجل حقوق الدفاع واعتباره طرفا فاعلا لتحقيق العدل، والقاضي يعاني ضغط كم الملفات، ويواجه مسألة التخصص القضائي، وانخرط في نقابة "نوعية" ليناضل من أجل ظروف عمل، مهنية واجتماعية، ملائمة لمهمته الحساسة، علها تكرس مبدأ الاستقلالية، وترقى إلى ما هو عليه نظراؤه في السلطتين الأخريين، التنفيذية والتشريعية.
معاينة رئيس اللجنة الوطنية الاستشارية لحماية وترقية حقوق الإنسان، مصطفى فاروق قسنطيني، كانت آخر تشريح يكرس هذه النظرة القاتمة، بل ويدق ناقوس الخطر، فبعد انتقاده الشديد لتطبيقات الحبس المؤقت، ها هو يطلق النار من خلال الإذاعة الوطنية، الأولى والثالثة، ويثخن تقريره السنوي إلى رئيس الجمهورية.
ويقول إن "إصلاح العدالة غير ناجع، وبات غير فعال أو ناجح إطلاقا، وهو في حاجة إلى مراجعة وتصحيح"، وتأسف لعدم استفادتها من تقرير اللجنة الوطنية لإصلاح العدالة، التي ترأسها المرحوم، محند يسعد، والذي تضمن عدة اقتراحات موضوعية، مشيرا الى أن واقع العدالة في الستينيات والسبعينيات كان أحسن حالا منه الآن، في الوقت الذي يطلب المواطن عدالة ذات مستوى رفيع.
وذهب قسنطيني، في سياق انتقاده الشديد لأداء قطاع العدالة، الذي وصفه بالنقطة السوداء، و"حجر عثرة" تحول دون تحقيق دولة الحق والقانون، إلى إثارة مسألة عدم استقلالية القضاء، كهدف أساسي من أهداف الإصلاح، رغم توفر النصوص القانونية المكرسة لها، وعلى رأسها الدستور، إلا أن هذه "الثقافة تظل بعيدة عن التطبيق في الجزائر"، وإن كان هذا "لا يمس بأي شكل من الأشكال احترافية ومستوى القضاة"، وقال "إن القاضي الذي تمارس عليه ضغوطات من قبل مسؤوليه المباشرين لا يمكن أن يقوم بعمل سليم"، متحدثا عن الاستقلالية "الفعلية" للسلطة القضائية التي تعد "العمود الفقري لدولة القانون والضامن لحمايتها"، وأضاف أن "القاضي لا يجب أن يخضع في إصدار أحكامه سوى للقانون وضميره المهني"، في تأكيد لقناعته بعدم وجود استقلالية.
وفي شهادة أخرى تتعلق بانتشار الفساد كمؤشر ومقياس عن فعالية العدالة وسلطة ردعها، قال قسنطيني، إن ظاهرة الفساد أصبحت "رياضة وطنية"، متواجدة في مختلف مستويات الإدارة، تعرقل الاقتصاد الوطني، وأضاف مستغربا "إن الجزائر أصبحت معروفة عالميا بالفساد"، مبررا جمود لجنة مكافحة الفساد بافتقارها لوسائل العمل، وحصولها مؤخرا فقط على مقر.
وبينما سارع رئيس المحكمة العليا الى الرد على قسنطيني بمطالبته بتقديم الدليل على عدم استقلالية القضاء عن الجهاز التنفيذي، هدد وزير العدل بملاحقة مظاهر الفساد والمفسدين المتورطين في قضايا فساد، كما هاجم مدير التعاون القضائي والقانوني بالوزارة، الطاهر عبد اللاوي، منظمة "شفافية دولية" موجها انتقادات لاذعة الى فرعها بالجزائر، برئاسة جيلالي حجاج، في حين اعترف مدير الشؤون الجزائية وإجراءات العفو، مختار الأخضري، بالوضع الراهن، وتحدث عن غياب نصوص صريحة توفر الحماية اللازمة للشهود والمبلِّغين عن قضايا الفساد، فضلا عن غياب خطوط خضراء.
المنظومة التربوية.. من الإصلاح إلى إصلاح الإصلاح
من جهته، مسار إصلاح المنظومة التربوية، الذي أداره الدكتور محمد بن زاغو، لم ينج بنفسه من هذا التعثر، إن لم نقل السقوط، حيث عاد جدل اللجنة وقتئذ الى الواجهة، لأن الأمر يتعلق بمشروع مجتمع، ولم يبلغ هدفه الإستراتيجي، وهو الرقي بمضمون المادة والمناهج التربوية، وغرس الهوية والشخصية الوطنية، مع إعطائها بعدا دوليا وإنسانيا، وإبعادها عن كل عوامل العنف والتطرف، ومن ثمة تحسين النتائج وتأهيل التلميذ والطالب والإطار لطرق باب كل العلوم والمعارف، والانخراط في مواقع العمل في الداخل أو الخارج، ما يجعل من المواطن الجزائري انسانا عالميا، في تطبيق واضح لقيم العولمة.
غير أن وقفة متأنية على النتائج المحققة، وملاحظات الخبراء والنقابات والأولياء، فإن الحوصلة تسوقنا إلى قناعة واحدة، وهو أن الإصلاحات تجربة ونتائج فاشلة، جعلت من التلاميذ حقل تجارب، جراء النقل الأعمى، وأحيانا بشكل مفاجئ، لتجارب الآخرين دون تكييف وتوفير وسائل التطبيق، وما قصة العتبة وتحديد الدروس المعنية بالأسئلة وتسهيل التنقيط في امتحانات نهاية السنة إلا تعبير عن هذا التدني، كما أفقدتهم لغتهم الأم وفاضلت بين اللغات الأجنبية، حيث كرست الفرنسية كلغة أولى إن لم نقل وحيدة وهمشت اللغة الإنجليزية كلغة علم أولى، بما أن الاختيار بينهما جنون، كما أنها لم تقلص من نسبة التسرب المدرسي ووسعت من مظاهر العنف المدرسي، رغم الهالة التي رافقتها والكم الضخم من البرامج والكتب التي أثقلت كاهل التلاميذ وجيوب الأولياء وأنهكت معنويات المؤطرين.
وكان تغييب المعلمين والأساتذة عن مشهد الإصلاح تكفلا وتأهيلا، أكبر خطأ، فما كان منهم سوى اللجوء الى الأطر النقابية وحتى الشارع للمطالبة بإدماجهم في العملية، وكان القانون الأساسي أهم المكاسب المحققة بعد سنوات من المواجهة على حساب الاهتمام بنوعية الأداء، حيث يواجه المعلمون صعوبة كبيرة في التعامل مع أطفال ومراهقين، بعضهم يشدهم الطموح وآخرون يمسكهم الخمول وفقدان الأمل جراء مستواهم المتدني، وخاصة قضية انتقال كوكبتين بشكل تلقائي، من الابتدائي الى المتوسط ومن المتوسط الى الثانوي، خاصة مع اقتصار الابتدائي على 5 سنوات، مع التراجع المفاجئ وغير المبرر عن اعتماد التعليم التحضيري بشكل إلزامي، كما كان مقررا منذ 2008، ليكون الحشو واختزال السنوات الحل السهل، ما أدى الى شحن البرامج بالمادة التربوية، وسقوطها في كثير من الأحيان في أخطاء فادحة في المعلومات، وحتى مشروع المدارس الخاصة كمتنفس ومنافس للتعليم العمومي انتهى إلى فشل ذريع، وأخذ النزوح اتجاها معاكسا.
ولعل أهم مكاشفة تؤكد هذا الوضع المقلق، هي اعتراف وزير التربية الوطنية، عبد اللطيف بابا أحمد، فور خلافته للوزير بن بوزيد، وفي ثاني خرجة إعلامية له، عبر القناة الإذاعية الثالثة، بفشل الإصلاح، وكأنها المهمة الأساسية من تعيينه ضمن التغيير الحكومي الأخير، وقال صراحة ودون مواربة، إن الإصلاحات التربوية التي باشرتها الوصاية منذ سنة 2003، ستخضع إلى تحليل مُعمق وتقييم موضوعي، محملا الإدارة التربوية والمحلية مسؤولية الوضع.
وألمح الوزير إلى أن المراجعة ستكون عميقة ودقيقة، وتحدث عن إنشاء لجنة وطنية مختصة تتكون من أساتذة ومختصين ومعلمين ومفتشين ونقابات، كما أعلن عن ندوة وطنية تعقد شهر جانفي أو فيفري المقبلين، تسبقها ندوات جهوية. كما طالب الولاة بالتعجيل ببناء المؤسسات التربوية، لامتصاص الاكتظاظ، الذي بلغ درجة تعاكس معنى الإصلاح، ففي حين كان الوزير السابق يتكلم عن 27 تلميذا كمعدل، ربما تعلق الأمر بوسط العاصمة بعد عمليات الترحيل، كانت أغلب الأقسام تختنق بأكثر من 45 تلميذا.
وقال وزير التربية ردا على سؤال شفهي بمجلس الأمة، أنه بعد تسع سنوات من إقرار المنظمة التربوية، فإنه من المفروض تقييم هذه التجربة للتدارك ومعرفة الأخطاء التي وقعنا فيها حتى يمكن استدراكها، وأضاف أن "الأمر يتعلق بمصير ومستقبل 8 ملايين تلميذ يتابعون دروسهم حاليا، ثم عملية الإصلاح الممتدة على 12 سنة لم تكمل وتبقى منها ثلاث سنوات".
ورغم ما حمله كلام الوزير، بابا أحمد، من "ملاحظات" على حصيلة عمل بن بوزيد، فإنه وقف على التعديلات الايجابية الحاصلة بالقطاع، ومنها القانون الأساسي لعمال التربية، وتكوين 214 ألف مدرس للوصول إلى شهادة ليسانس، بينما لم يكن يمثل المدرسون الحاملون لشهادة ليسانس سوى 13 بالمائة سنة 2000 .
من جهتها انتقدت النقابات نتائج إصلاح المنظومة التربوية انطلاقا من تدني المستوى التعليمي للتلميذ مقارنة بالستينات والسبعينات، وأعابوا على تطبيقات البرامج الجديدة إهمال إعداد الأساتذة وتوفير المراجع والوسائل التقنية التطبيقية، ما سبب ضغوطا ومتاعب كبيرة، متسائلة عن التخلي عن التدريس بالمقاربة بالكفاءات ودون توحيد المنهجية، كل يدرس كيفما يشاء، الى جانب تجاهل مراجعة الحجم الساعي، وإلغاء بعض الدروس في المرحلة الابتدائية، لتخفيف العبء عن التلميذ.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]